خطبة الجمعة بعنوان “وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ”. للشيخ عبد الناصر بليح
لتحميل الخطبة بصيغة pdf إضغط هنا
لتحميل الخطبة بصيغةWord إضغط هنا
“وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ”.
الحمد لله رب العالمين .. يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ..
الحمد الذي سهل لعباده المتقين إلى مرضاته سبيلا, وأوضح طريق الهداية وجعل اتباع الرسول عليها دليلا ..
و أشهد ألا إله إلا الله و حده لا شريك له في سلطانه ولي الصالحين ..:” وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( التوبة/100).
و أشهد أن محمدا عبده و رسوله الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ” إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى “القائل :” ليس الغني عن كثرة العرض وإنما الغني غني النفس “ويقول : “وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ”.لحفر بئرين بإبرتين ,وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين ,وكنس أرض الحجاز في يوم ريح عاصف بريشتين ونقل ماء بحرين زاخرين إلى ارض الصعيد بغربالين خير لي من أن أقف على باب لئيم يضيع فيه ماء وجهي”.
اللهم صلاة وسلاماً عليك يا سيدي يا رسول الله وعلي آلك وصحبك الطيبين الطاهرين الغر الميامين, وسلم تسليماً كثيراً..
أما بعد : فيا جماعة الإسلام :” يقول الله تعالى : وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ”(الشوري /27).
ذكر أن هذه الآية نـزلت من أجل قوم من أهل الفاقة من المسلمين تمنوا سعة الدنيا والغنى, فقال جلّ ثناؤه: ولو بسط الله الرزق لعباده, فوسعه وكثره عندهم لبغوا, فتجاوزوا الحدّ الذي حدّه الله لهم إلى غير الذي حدّه لهم في بلاده بركوبهم في الأرض ما حظره عليهم, ولكنه ينـزل رزقهم بقدر لكفايتهم الذي يشاء منه.
ومعنى الآية : لو جعل الله جميع الناس في بسطة من الرزق لاختلّ نظام حياتهم ببغي بعضهم على بعض لأن بعضهم الأغنياء تحدثه نفسه بالبغي لتوفر أسباب العُدوان كما علمت فيجد من المبغي عليه المقاومةَ وهكذا ، وذلك مفض إلى اختلال نظامهم . والله منعك ليعطيك .. منعك شيئاً ليعطيك أفضل منه..
يقول أحد العارفين بالله: ربما كان المنعُ عَين العطاء، وربّما كان العطاء عَين المنْع ! وإذا كُشِفَت لك الحكمة في المنع عاد المنعُ عَين العطاء فالمؤمن مستسلِم لقضاء الله، لأنَّه يعلم أنَّه لكلّ شيء حقيقة، وما بلغَ عبدٌ حقيقة الإيمان حتَّى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن لِيُخطئهُ، وما أخطئه لم يكن ليُصيبه.
فهل تعلم – يا عبد الله – أن الأرزاق بيد الله مقسومة، ومقاديرَها عند الله معلومة محسومة، وأن الفقر قد يكون أفضل لك من الغنى. إن من عباد الله المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى، ولو أفقره لفسد حاله, وإن من عباد الله المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغناه لفسد حاله، وإن من عباد الله من لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمه لفسد حاله ، وإن من عباد الله المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا السقم، ولو أعطاه الصحة لفسد حاله،وهكذا لله في خلقه شؤون..
يقول الرسول صلي الله عليه وسلم : “إن الله تعالى قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله تعالى يُعطي المال من أحب ومن لا يُحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب” (البخاري).
أخوة الإيمان والإسلام :” لما أشتغلنا بحب الدنيا, ونعيمها عن طلب الآخرة فرأيت أن أذكر نفسي, و أحبتي في الله بحال رسول الله صلى الله عليه و سلم .حال الرضا بالله وقضاء الله ..
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم -:” يقول العبد مالي . مالي, و إنما له من ماله ثلاث : ما أكل فأفنى, أو لبس فأبلى, أو تصدق فأمضى, وما سوى ذلك فذاهب و تاركه للناس” )مسلم) .
فإذا رأيت من هو أكثر منك مالا, أو ولدا فاعلم أن هناك من أنت أكثر منه مالا, وولدا أيضا . فانظر إلى من أنت فوقه, و لا تنظر إلى من هو فوقك . قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم -:” انظروا إلى من هو أسفل منكم, و لا تنظروا إلى من هو فوقكم, فهو أجدر أن تزدروا نعمة الله عليكم “(صحيح).
إن تحقيق صفة الرضا يقتضي أن تنظر في أحوال الناس الآخرين لتعلم مقدار نعم الله عليك التي قد يحسدك عليها الملايين من البشر ..
فإن كنت فقيرًا، فإن أزيد من ملياري شخص في العالم يعيشون تحت خط الفقر، أي: بأقل من 15 درهما في اليوم، وأزيدَ من مليار آخرين يعيشون دون الحد الكافي من الطعام والحاجات الأساسية، ويموت قرابة 30000 طفل يومياً بسبب الجوع، ومليار شخص في البلدان النامية لا يحصلون على كمية كافية من المياه.
وإن كنت مريضًا فإن مرضى السكري حولك تجاوزوا 350 مليونا، منهم 140 مليونا في الصين والهند وحدهما، وقرابة ثلاثة ملايين ونصف في المغرب، ومرضى الكبد تجاوزوا 500 مليون شخص، ما يقارب المليونين منهم في المغرب، ومرض فقدان الذاكرة والاضطرابات السلوكية (الزهايمر) يصيب الآن أزيد من 25 مليون شخص عبر العالم، منهم أزيد 80 ألفا في المغرب.
وإن كنت تحس بالحزن وكدر العيش، فإن أزيد من مليار شخص حول العالم يعيشون حالات اكتئاب، .. ومن الطريف أن الصينيين افتتحوا مقهى مخصصا ً للمكتئبين، يتيح لزبنائه أن يعبروا عن حالاتهم النفسية، ويساعدُهم على البكاء والتنفيس عن أحزانهم مقابل 50 درهما – تقريبا.
وإذا كان أثاث بيتك متواضعاً، فإن ربع الإنسانية يعيشون بلا كهرباء، ونصف سكان الهند لا يملكون دورات المياه.وإذا كنت لا تمتلك سيارة.. فالجنيه الحديد الذي بيدك يوصلك لأي مكان مادمت تملك صحتك وعافيتك ..
أليست هذه الحقائق كفيلة بأن تقدر نعم الله عليك، فتعلم أنه فَضَّلك على كثير من المبتلين، وعصمك من كثير من الأكدار، والأسقام، والأوجاع. يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -:”من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا، لم يصبه ذلك البلاء” صحيح سنن الترمذي.
وأثر عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال: “ما ابتُليتُ ببلية إلا كان لله عليَّ فيها أربعُ نِعم:”إذ لم تكن في ديني , وإذ لم أحرم الرضا ,وإذ لم تكن أعظم منها ,وإذ رجوت الثواب عليها”.
رضيت بما قســـمَ الله لي
وفوّضتُ أمري إلى خالقي
كما أحسن الله فيما مضى
كذلك يُحسن فيمــــا بَقِي
أخوة الإيمان والإسلام :
والرضا خلافُ السُّخْط كما في الدعاء الذي علمنا إياه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ” مسلم. وقوله – صلى الله عليه وسلم -:”إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخِط فله السَّخَط” ( الترمذي(.
وعرفوه اصطلاحا بقولهم: “سكون القلب إلى اختيار الرب”. وقيل: “سرور القلب بِمُر القضاء”. وقيل: “هو: استقبال الأحكام بالفرح”.
وليس الرضا هو الاستسلام، لأن الاستسلام هو الانهزام وعدم بذل الجهد لتحقيق الهدف، أما الرضا فهو استفراغك الوسع في تحقيق الهدف، لكن لم توفق إليه، فترضى بما قسم الله لك من غير جزع، أو ضجر، أو سخط، كالذي تزوج ولم يرزق الولد، والذي أصيب بمرض لم يستطع دفعه، والذي ابتلاه الله بالفقر وضيق ذات اليد، فاجتهد في تحصيل الغنى فلم يوفق..
هنا يأتي التحلي بصفة الرضا بما كتبه الله وقدره، فتحيل القلب إلى سرور دائم، وتشعر النفس بنعيم مقيم.
- قال عبد الواحد بن زيد: “الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، وسراج العابدين”.
فالرضا هو قبول حكم الله في السراء والضراء، والعلم أن ما قسمه الله هو الخير كله. قال الحسين بن علي – رضي الله عنه -:”من اتكل على حسن اختيار الله تعالى، لم يتمن غير ما اختار الله له”.
- وقال أبو عثمان الحيري: “منذ أربعين سنة، ما أقامني الله في حال فكرهته، وما نقلني إلى غيره فسخطته”.
وهذا الفهم السليم للرضا هو الذي يهون المصاب، ويخفف وطأة الرُّزء، ويضعف سَوْرة الخطب. قال علقمة في قوله تعالى:”وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ”(التغابن/ 11). قال: هي المصيبة تصيب الرجل، فيعلم أنها من عند الله عز وجل فيسلم لها ويرضى”.. وقال عامر بن قيس: “أحببتُ الله حباً هوَّن عليَّ كلَّ مصيبة، ورضَّاني بكل بليَّة، فلا أُبالي مع حبي إياه علامَ أصبحت، وعلام أمسيت”..
عند ذلك يستوي عند المسلم حال الفقر وحال الغنى. قال ابن عون: “لن يصيب العبدُ حقيقة الرضا، حتى يكون رضاه عند الفقر كرضاه عند الغنى”..
إن الأرزاق مكفولة، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فكيف يبتغي بعض الناس الزيادة بالطرق الحرام، أو بالاعتداء على الأبرياء بسرقة أموالهم، أو التحايل على ما في أيديهم، أو ظلمهم والاعتداء عليهم، أو إشهار السلاح في وجوههم، أو قَطْع طريقهم، مما أصبحنا نسمع به في الصباح والمساء؟ يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -:”ولا يحملن أحدَكم، استبطاءُ الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى :” لا ينال ما عنده إلا بطاعته” صحيح الترغيب. وفي الحديث :” قد أفلح من أسلم ورزق كفافا, وقنعه الله بما آتاه”(مسلم).
ها هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سيد البشر، ومجتبى رب العالمين، عاش من ألوان الفاقة والحاجة ما قد لا يقدر عليه غيره، فواجهها بالرضا والقناعة.
- وصف عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أثاث بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: “وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَىْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا “ورق شجر يدبغ به مسكوبا”، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ “جلود غير مدبوغة”، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِى جَنْبِهِ، فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: “مَا يُبْكِيكَ؟”. فَقُلْتُ: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؟”. فَقَالَ: “أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ؟”( البخاري).
ولقد بشر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المبتلين بالفقر والضيق والحاجة أنهم أسبق إلى الجنة من غيرهم، فقال: “يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام” ( الترمذي). وفي رواية: “بأربعين خريفا”..
بل تعظم البشارة حين نعلم أنهم يدخلون الجنة بغير حساب. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:”إذا أدى العبد حق الله، وحق مواليه، كان له أجران”. قال: فحدثتها كعبا، فقال كعب: “ليس عليه حساب، ولا على مؤمن مُزْهِد (قليل المال)” (مسلم).
أخوة الإيمان والإسلام :
**انظر إلي من هو دونك “
يقول الله تعالى :”وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ” ( طه /131 ).
قال ابن كثير – رحمه الله – : ” يقول الله تعالى لنبيه – صلى الله عليه وسلم – لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون, و أشباههم, و نظرائهم فيه من النعيم ؛ فإنما هي زهرة زائلة لنختبرهم بذلك و قليل من عبادي الشكور, فقد أتاك الله خيرا مما أتاهم, و لهذا قال :” وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ و أبقى ” .
فكان – صلى الله عليه وسلم – أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها, و إذا حصلت له ينفقها هكذا, و هكذا في طاعة الله, و لم يدخر لنفسه شيئا لغد ”
صلى الله عليك يا علم الهدى و هو الذي قال :” إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا . قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله ؟ قال بركات الأرض”( ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا).
و كان الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة ؛ لأنهم يعلمون أنه لا عيش إلا عيش الآخرة . و قال – صلى الله عليه و سلم – :” يقول الله تعالى : “يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى, و أسد فقرك, و إن لم تفعل ملأت صدرك شغلا و لم أسد فقرك “( الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة ).
و أذكر نفسي, و أحبتي في الله بقول رسول الله – صلى الله عليه و سلم -:” من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره, و جعل فقره بين عينيه, و لم يأته من الدنيا من الدنيا إلا ما كتب له . و من كانت الآخرة نيته جمع له أمره, و جعل غناه في قلبه, و أتته الدنيا و هي راغمة”(صحيح).
و العاقبة للتقوى, فارض يا عبد الله بم قسم الله لك تكن أغنى الناس . و لنتذكر قول النبي – صلى الله عليه و سلم:” من أصبح آمنا في سربه, معافا في جسده, عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها “(حديث حسن (
وصدق رسول الله – صلى الله عليه و سلم – طبيب القلوب الذي نصح أمته بخير وصية فقال : ” و ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس “.
إن الغني هو الغني بنفســـه
ولو انه عاري المناكب حاف
ما كل ما فوق البسيطة كافيا
وإذا قَنِعت فبعض شيء كاف
نعم :ليست السعادة في سكني القصور وركوب السيارات الفارهة ..ولكن السعادة في رضا الله تعالي عن العبد ورضا العبد بقضاء الله عز وجل .. “إنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ . إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ“(يونس/7-10).
إن السعادة الحقيقية تتركز في ثقة المؤمن بربه واطمئنان قلبه إلي قضائه وقدرة
قيل للحسن البصري ما سر سعادتك فى الدنيا فقال أربعة أشياء:” علمت أن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري فاشتغلت به وحدي وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت نفسي للقاء الله”..
وقد صدق رسول الله إذ يقول لأبي ذر الغفاري يا أباذر : أحكم السفينة فإنّ البحر عميق , واستكثر الزاد فإنّ السفر طويل , وخفف ظهرك فإنّ العقبة كؤود , وأخلص العمل فإنّ الناقد بصير ” (المقدسي(.
تزود من حياتك للمعاد وقم لله واجمع خير زاد
ولا تركن إلى الدنيا قليلاً فإن المال يجمع للنفاد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زادٌ وأنت بغير زاد؟
لقد ركز الرسول صلي الله عليه وسلم معالم السعادة علي الرضا حيث قال في الحديث الصحيح :” “اتّقِ المَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النّاسِ، وَارْضَ بِما قَسَمَ الله لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِناً، وَأَحِبّ لِلنّاسِ ما تُحِبّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِماً، وَلاَ تُكْثِرِ الضّحِكَ فَإِنّ كَثْرَةَ الضّحِكِ تُمِيتُ القَلْبَ” (الترمذي ).
إن مملكة الرضا لا تزحزحها نوائب الدهر,ولا تؤثر فيها رياح ولا عواصف ..لأنها مملكة الله هو سيدها وراعيها ..لأنها مملكة شيدها الله صنعاً علي عينه.. و من ذا الذي يقوي علي تحطيم ما شيده مالك الملك وملك الملوك ..
قيل للحسن البصري أي الأيام عندك عيد ؟قال كل يوم لا نعصي الله فيه فهو عيد ..قيل له يا إمام لماذا بيض الله وجهك بعد أن كان أسود قال رزقنا الله بقيام الليل خولنا به ليلاً والناس نيام فكسانا من جماله ..
إذَا المرءُ لمْ يلبسْ ثياباً من التُّقَي.. تقلَّبَ عُرياناً وإنْ كانَ كاسِيَا.
وخير لباس المرء طاعة ربه ..ولا خير فيمن كان لله عاصــــياً.
أخوة الإيمان والإسلام :
إن مملكة الرضا إذا قامت في نفس المؤمن أنزلت في قلبه السكينة فصيرته أشد ثباتاً من الجبال الشم ,والرواسي الشامخات فأصبح من القوة الإيمانية بحيث تزول الجبال ولا يزول:” فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً”(الفتح /18).
فالسعيد الحق هو من رضي بما قسم الله له, وصبر لمواقع القضاء خيره وشره, والرضا هو السياج الذي يحمي المسلم من تقلبات الزمن, وهو البستان الوارف الظلال الذي يأوي إليه المؤمن من هجير الحياة، وهو الغنى الحقيقي؛ لأن كثيرا من الناس لديهم حظ من الدنيا، لكنهم فقراء النفس ومساكين القلب, فقد أعمى الطمع قلوبهم عن مصدر السعادة والغنى الحقيقي, الذي هو غنى القلب والرضا وسكينة النفس،, قال تعالى: “الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” (الرعد: 28)، وما أحسن قول الشاعر:
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت *** فجميع ما في الأرض لا يكفيها.
والحاصل أن من قنع بما قسم له ولم يطمع فيما في أيدي الناس اسْتغنى عنهم، فالقناعة غنى وعز بالله، وضدها فقر وذل للغير، ومن لم يقنع لم يشبع أبدا، ففي القناعة العز والغنى والحرية، وفي فقدها الذل والتعبد للغير.يقول صلي الله عليه وسلم:” من جلس إلى غني لينال من ماله فقد ذهب ثلث دينه ” ويقول صلي الله عليه وسلم ” من فتح باب مسألة فتح الله عليه باب فقر”(صحيح(.
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين ..
أما بعد فيا جماعة الإسلام ..
السعيد الحق هو من رضي بما قسم الله له , وصبر لمواقع القضاء خيره وشره , وأحس وذاق طعم الإيمان بربه , كما قال المصطفى – صلى الله عليه وسلم – : ” ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رضي بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً”(أحمد و مسلم والتِّرْمِذِيّ ). وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:مَنْ قَالَ : رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا ، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ.( أحمد).
إن للرضا حلاوة تفوق حلاوة وعذوبة دونها كل عذوبة ، وله من المذاق النفسي والروحي والقلبي ما يفوق مذاق اللسان .
إن الاضطراب والتفرق والذل والخوف والفوضى كل ذلك مرهونٌ – سلبًا وإيجابًا – بالرضا بالدين وجودًا وعدما قال تعالى: ” وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ” (آل عمران/85).
والرضا هو السياج الذي يحمي المسلم من تقلبات الزمن , وهو البستان الوارف الظلال الذي يأوي إليه المؤمن من هجير الحياة .
ولقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النموذج والمثل الأعلى في الرضا بما قسم الله تعالى . فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود ، قَالَ:اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ ، فَأَثَّرَ في جَنْبِهِ ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ ، جَعَلْتُ أَمْسَحُ جَنْبَهُ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلاَ آذَنْتَنَا حَتَّى نَبْسُطَ لَكَ عَلَى الْحَصِيرِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا لي وَلِلدُّنْيَا ، مَا أَنَا وَالدُّنْيَا ، إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ الدُّنْيَا ، كَرَاكِبٍ ظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا. ( أحمد).
ولقد اقتدى الصحابة رضوان الله عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في القناعة والرضا فهذه السيدة صفية بنت عبد المطلب؛ والتي قُتل أخوها سيدنا حمزة بن عبد المطلب، ومثِّل به ومضغت هند بنت عتبة كبده، وجاء أبو سفيان ووضع الحربة في فمه وأخذ يدقُّها حتى تشوَّه وجهه رضي الله عنه.. استمع إلى ما رواه ابن إسحاق عن هذا المشهد، يقول: وقد أقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه،وكان أخاها لأبيها وأمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها، فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنَّه مُثِّل بأخي، وذلك في الله،فما أرضانا ما كان من ذلك، لاحتسبن ولأصبرن إن شاء الله؛ فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، قال: “خلِّ سبيلها”، فأتته فنظرت إليه وصلَّت عليه واسترجعت واستغفرت .
وهذا هو التابعي الجليل عروة بن الزبير رضي الله عنه قد توفى ابنه وفاةً غاية في الصعوبة إذ دهسته الخيل بأقدامها، وقُطِعت قدم عروة في نفس يوم الوفاة، فاحتار الناس على أي شيءٍ يعزونه.. على فقد ابنه أم على قطع رجله؟فدخلوا عليه، فقال: “اللهم لك الحمد، أعطيتني أربعة أعضاء.. أخذت واحدًا وتركت ثلاثة.. فلك الحمد؛ وكان لي سبعة أبناء.. أخذت واحدًا وأبقيت ستة.. فلك الحمد؛ لك الحمد على ما أعطيت، ولك الحمد على ما أخذت،أشهدكم أنِّى راضٍ عن ربي ..
فليتك تحلو والحيــاة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرًا *** وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صحَّ منك الودُّ فالكلُّ هيِّنٌ *** وكل الذي فوق التراب تراب
أخوة الإيمان والإسلام :”** ماهو الغني الحقيقي ؟
بعض الناس يعتقد أن الغنى الحقيقي هو غنى الأموال والمناصب والوجاهات , وينسى أن كثيرا من الناس يملكون من الدنيا كثيراً لكنهم فقراء النفس ومساكين القلب , فقد أعمى الطمع قلوبهم قبل أعينهم عن مصدر السعادة والغنى الحقيقي , ألا وهو غنى القلب والرضا وسكينة النفس . قال تعالى : ” يوم لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم “.(الشعراء/88 – 89 ).
فالقلب السليم هو القلب المطمئن الذي رضي بما قسم الله تعالى له واطمئن بذكر الله تعالى ,قال تعالى: “الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ”( الرعد/28).
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ.”( أحمد البُخاري الترمذي).
وعن أبي ذر قال :” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى” قلت نعم يا رسول الله قال: “فترى قلة المال هو الفقر” قلت نعم يا رسول الله قال: “إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب” ثم سألني عن رجل من قريش فقال: “هل تعرف فلانا” قلت نعم يا رسول الله قال: “فكيف تراه وتراه؟” قلت إذا سأل أعطي وإذا حضر أدخل ثم سألني عن رجل من أهل الصفة فقال:”هل تعرف فلانا ” قلت لا والله ما أعرفه يا رسول الله قال فما زال يحليه وينعته حتى عرفته فقلت قد عرفته يا رسول الله قال: “فكيف تراه أو تراه” قلت رجل مسكين من أهل الصفة فقال: ” هو خير من طلاع الأرض من الآخر ” قلت يا رسول الله أفلا يعطى من بعض ما يعطى الآخر فقال: “إذا أعطي خيراً فهو أهله وإن صرف عنه فقد أعطي حسنة”.
أخوة الإيمان والإسلام :
وقد يظن البعض أننا بهذا ندعوا إلي الفقر والعوز أو إن الإسلام يدعوا إلي الفقر كلا: فديننا الإسلامي دين شامل وكامل يدعوا إلي العمل والغني بشر ط:” لا بأس بالغني لمن اتقي “.ورسولنا صلي الله عليه وسلم كان من أغني الأغنياء ولكنه زهد في كل هذا فقد عرضت عليه بطحاء مكة ذهباً ورفض وقال بل أجوع يوماً وأشيع يوماً فإذا جوعت ذكرت الله وإذا شبعت شكرت الله ”
ولو تتبعنا سيرة الصحابة رضوان الله عليهم لوجدنا أن تسعة من المبشرين بالجنة كانوا من أغني أغنياء الصحابة عدا علي بن أبي طالب الذي زهد في الدنيا.
فديننا الإسلامي لا يترك المسلم لدنياه ولا يتركه لأخرته بل المنهج :” اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لأخرتك كأنك تموت غداً ” .
اللهم اجعلنا من عبادك..الذين يرضون بقضائك .. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا يارب العالمين ..